الذي يظهر لي: أن المبعوثين رسولان وشاهدان، يرسلهما القاضي إلى الزوجين عند الشقاق ولو بدون رضاهما لكن برضاهما أكمل وأولى - وذلك للبحث عن أسباب الشقاق، ومحاولة إزالتها، والإصلاح بينهما برضاهما بجمع أو فرقة، فإن تعذر الإصلاح من قبلهما أتى الحكمان إلى القاضي وأخبراه ما اطلعا عليه من حالهما مما خلصا إليه بعد النظر والكشف، وشهدا بما ظهر لهما من ذلك، وأقاداه بينما بريائه من جمع أو فرقة، يعوض (كل المهر أو بعضه) أو بدونه، ولا يلزم فيهما إلا بإلزام القاضي وحكمه إذا رآه صوابا، فشهادتهما من قبيل شهادة أهل الخيرة تبنى على غلبة الظن، وغلبة الظن معمول بها في الشرع، مثل الشهادة في تقدير قيم المتلقات ونحوها، وقد قال الله - تعالى - : (یا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار )، ففي هذه الآية أمر الله بامتحان المؤمنات، وسمي المستخرج بامتحانهن علماً، وهو ناتج عن غلبة الظن، مما يدل على جواز شهادة الحكمين على الزوجين بعد امتحانهما و مباحثتهما بما ظهر من حالهما وبما يريانه من الفرقة أو الجمع بينهما ولو كان ذلك مبينا على غلبة الظن ؛ لأن ما لا سبيل له إلا ذلك جازت الشهادة عليه يغلبه الظن، ويسمى علما كما سماه الله - تعالى - في الآية .
وما يقرره المبعوثان (الحكمان) يجب على القاضي الأخذ به ما لم يستوجب الرد بطعن شرعي، وهذا ما عليه العمل الآن.
شروط الحكمين المبعوثين عند الشقاق الزوجي:
الشرط الأول: السلام:
والذي يظهر لي: أنه يشترط في المبعوثين أن يكونا مسلمين إذا كان الشقاق بين زوجين مسلمين، أو كان أحدهما مسلم، أما إذا كان الزوجان كلاهما كافرين فلا يشترط كون المبعوثين مسلمين، بل يصح أن يكونا كافرين مثل الزوجين.
الشرط الثاني: العدالة:
والذي يظهر لي: قوة ما ذكره ابن العربي، فالحكمان المبعوثان إذا كان الذي سوف يرسلهما القاضي من غير اختيار الزوجين ورضاهما فلابد أن يكونا عدلين معرفة القاضي، أو أن يثبت ذلك عنده، وأما إذا اختارهما الزوجان أو بعثاهما فلا تشترط فيهما العدالة، بل يكفي رضا الزوجين بهما.
وهذا هو الذي عليه العمل الآن.
وإذا اتخذ الحكمان قرار لم يقبل من الزوجين أو أحدهما طعن في عدالة الحكمين أو أحدهما؛ لأنهما قد رضياهما على نفسيهما، لكن لو طرأ عليه الفسق، أو زاد، أو ظهر شيء منه أكثر مما يعلمه من بعثهما ولم برض به: انعزل.
الشرط الثالث: التكليف:
الشرط الرابع: الذكورة:
والذي أرجحه: ما ذهب إليه أصحاب القول الأول؛ لما عللوا به، ولا يعارض هذا ما رجحناه من كون المبعوثين رسولين وشاهدي خبرة؛ لقوله - تعالى -: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها)، فدلت الآية على اشتراط الذكورة في المبعوثين، فقد جعلهما اثنين، وشهادة المرأة لا يكمل نصابها بذلك .
وتم تعليل ينضاف إلى الدليل وهو : أن قيام المبعوثين بالتحكيم يستوجب كمال الرأي وغلبته على العاطفة، وهو أكثر تحققا في الرحل ،
تنبيه : ذكر بعض المالكية أنه يجوز بعث امرأة أمينة تسكن مع الزوجين، وقول الأكثر منهم : بعث الحكمين وعدم العمل بالأمينة، قال ابن جزي (ت: 741ه) - منتقدا قضاة زمانه في بعث الأمينة - : « قال بعض العلماء : لا يجوز - أي بعث الأمينة لأنه مخالف للقرأن.
الشرط الخامس : أن يكونا اثنين :
القول الأول : يشترط أن يبعث اثنان، ولا يكتفي بواحد.
القول الثاني : يجوز ولا يشترط أن يبعث اثنان، ويجزئ الواحد إذا تحققت فيه الشروط .
• الترجيح :
الذي أرجحه : هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول من اشتراط الاثنين ؛ لقوة ما استدلوا به وعللوا.
ولا يقوى ما استدل به أصحاب القول الثاني على معارضة أدلة أصحاب القول الأول ؛ ذلك أن بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنيسة كان بصفته نائبا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في استجواب المدعى عليها ( المرأة ) والحكم عليها إذا أقرت، وليس الحكم في الشقاق كذلك، وقد نصت الآية على الاثنين، فلا يجوز بعث واحد .
الشرط السادس : أن يكونا من أهل الزوجين إن أمكن :
فالذي يظهر لي أن الأجنبيين يستحب أن يكونا ممن له خبرة ومعرفة بالزوجين سواء كان ذلك بجوار أم بغيره.
الشرط السابع : ألا يكون الحكمان متهمين :
والذي يظهر لي : أن التهمة مانعة لحكمي الشقاق الزوجي من الاشتراك في التحكيم ابتداء، كعداوة الحكمين أو أحدهما للزوجين أو أحدهما، ومن يجر لنفسه من الحكمين نفعا، أو يدفع ضررة، فلا يبعث الحاكم منهما، أما إذا اختاره الزوجان - ولو كان أحدهما متهما في حق الآخر - ثم اجتمعا على اتخاذ قرار : وجب العمل به ولم يقبل فيه طعن بالتهمة بعد ذلك، وأما القرابة فليست تهمة مانعة للقريب من التحكيم في الشقاق الزوجي؛ النص الآية على الأهل في قوله - تعالى - : (و فابعثوا حكما من أهله وحكمة من أهلها ).
فيبعث كل واحد منهما حكما من أهله، ولا يكونان من أهل أحد الزوجين فقط إلا برضا الآخر.
الشرط الثامن : الفقه بما حكما فيه :
والذي أرجحه : هو ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني ؛ ذلك أن الحكمين - كما رجحت سابقا - شاهدا خبرة بما يظهر من حال الزوجين بعد الكشف والتحري، والشاهد لا يشترط فيه أن يكون فقيها، بل يكفي في شاهد الخبرة العلم بما يشهد به من غلبة الظن، كما في قوله تعالى - : { فإن علمتموهن مؤمنات).
الشرط التاسع : السياسة وحسن النظر:
والذي يظهر لي : أن السياسة وحسن النظر صفة كمال في حكمي الشقاق الزوجي، لا شرط لصحة تحكيمهما .
ووجه ذلك : أن حكمي الشقاق الزوجي شاهدا خبرة - كما الرجحنا ذلك سابقا، وشاهد الخبرة لا يشترط فيه ذلك.